قل اللهم مالك الملك
الحمد لله الذي يؤتي الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، والصلاة والسلام على خير أهل الرض والسماء، وبعد..
فيقول الله عز وجل (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير. تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب)

تعليم الحق لنا كيف نثني على الحق سبحانه وتعالى بقوله (قل اللهم مالك الملك) لا مساهم في ملكه، ولا منازع، ولا معين، ولا قرين، يؤتي الملك من يشاء، ومن تذلل له، وخضع له، أوتي الملك، وليس الملك يعني الكرسي ولا المنصب فقط، لا.. الملك أنواع كثيرة كما نعلم وسنعلم، وينزع الملك ممن تكبر عليه.
ويعز من يشاء بأن يؤنسه به سبحانه، ويذل من يشاء بأن يوحشه عنه سبحانه، يعز من أسقط أحكام نفسه، ويذل من شغل بنفسه وكان غاية نفسه هي التي تشغله، يعني دائرة نفسك وعملك والهالة التي نعملها حول أنفسنا، فإذا أردنا العزة أسقطنا أحكام أنفسنا من نفسنا بمعنى لا شأن لنا ولا قدر ولا أي شيء عندها يعزنا كل العز.
كذلك (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) بكل المعاني، يعني العارفين أخذوها ان يغلب سلطان التوحيد، فلا يبقي من آثار النفس شيء.. انظر حين يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، حين يكون الليل في الظلام وبعد ذلك يخرج منه النهار فيشبهه العارفين بأن هذا سلطان التوحيد لا يبقى لظلمة النفس ولا أثرها أي شيء، فيخرج منوراً من ظلمات النفس التي كانت مظلمة فيصير النور، والبهاء، والجمال، والعكس كأن شمس القلوب كسفت.
(يرزق من يشاء) حتى لا كدر، ولا جهد، ولا عرق جبين، ولا تعب.. رزق لدني رباني، نعم نسعى، ونأخذ بالأسباب لآخر نفس، وإن عطلناها أثمنا شرعاً وحقيقة وشريعة و...و.. لكن أمر الرزق في أوله وآخره بيد الله، فتجد من يرزق بلا كدر ولا جهد ولا عرق جبين ولا تعب يمين، تفضلاً منه سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب، إن بتقوى وإن بغير تقوى، كما قال المنورون هي موضوع رزق بفضل محض (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) ..... الي آخره.. (ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات)
لا نهاية لقدرته، حينما يقول: (إنك على كل شيء قدير) يعني لا نهاية لقدرته، كل شيء هو قادر عليه سبحانه وتعالى.
(تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت) تخرج الحيوانات من النطف، والنباتات من الحبوب، أو المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن وغيره من المعاني التي قيلت.. ملك الله مفرداً به سبحانه يعني لا يوحد أحد له ملك ثاني، والعز الحقيقي معرفة حقائق القرآن، والذل الحقيقي فقد حقائق القرآن، لا تؤثر أسباب الملك كما يقول العارفون: لا نتأثر ولا نؤثر أسباب الملك على أسرار الملك، أي انهم لا يستغرقون في أسباب الملك، اسباب الملك ان يكون عندي سلطان أو عندي جهة معينه او جاه أو انشغل كيف تحصل النقود كيف تحصل المال، هذه أسباب الملك... أسباب الوظائف.. جمع الأموال عن أسباب الملك، أنه من الذي أتاني ويؤتي، وينزع، وإن ما أنا به ليس دائم وإن الملك والملكوت لله سبحانه وتعالى، وهذا أخذ بالأسباب وفعل وصنع ثم تكبر وأخلاقه سيئة فنزع ما فيه، أو استدراج على ما هو فيه.
فالعارفين لا يتأملوا في أسباب الملك وإنما يتأملوا في أسرار الملك، وهذا فوق الأسباب، وهذا هو النور كله.
يجب عليك ألا تعيش بحثاً عن أسباب الرزق تحصل من أين وتعيش وتموت في الدائرة السببية.. فالعارفون بحثهم ليس في الأسباب ولكن فيما وراء الأسباب، في الأسرار والأنوار ولماذا هذا ولماذا ذاك... الخ
(تعز من تشاء) بأن تشغله بك.. (وتذل من تشاء) بأن تشغله عنك، إياك أن تعيش دور أن العز والذل في الملك والجاه والمنصب، ويؤتي الملك اي يؤتى ملك الكرسي لا، فإن هذا أحد وجوه الملك، بل التوحيد أكبر ملك يؤتيه الله للعبد، التوحيد هو الملك كله كما قال العارفون، فأي منصب؟ أو أي كرسي؟ وإن كان هذا صوره واضحة لمعنى يؤتى الملك فهو المتبادر لدى الذهن، والمتبادر لدى الذهن أقوى أمارات الحقيقة كما يقولون، وهو يدخل دخولاً أولياً في معنى الآية.
(قل اللهم مالك الملك) الملك هو السلطان والجاه، لكن لا يقتصر على هذه الصورة فقط، وإن كانت هذه الصورة المتبادرة وإنما نوسع في معنى الملك، ونوسع في معنى الإتيان، والنزع.. و.... و... حتى تكون الصورة متكاملة، فمثلاً كما قلنا الآن تعز من تشاء بأن تشغله بك وتذل من تشاء بأن تشغله عنك.
خرج سيدنا عيسى مع أصحابه يوماً فقال لهم: أنتم أغني من الملوك، قالو: يا روح الله كيف؟ ولسنا نملك شيئاً ولسنا نملك ما يملكون! قال: لأن عندهم أشياء ولا تكفيهم، (فالذي لا يكفيه هذا لا يملك حتى الآن)، وإنما الذي كفاه _ الذي يكتفى _ القانع هذا هو في الملك وملك الملك.
(تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) تخرج الزرع من الحب، والحب من الزرع، وتخرج البيضة من الدجاجة والدجاجة من البيض.
انظر للعظمة، الذي يملك ظاهر الأمور وباطنها هو الله وحده وفقط، الظاهر يقال له ملك والباطن يقال له ملكوت، ومن معنى الباطن الغيب.
ملك ماذا الذي يملكه الناس! هو طبعاً ليس ملكهم هو استعارة من فضل الله عليهم فهم لا يملكون شيئاً في الحقيقة، لكن هل أحد يملك الغيب، الوقت، الزمان، المكان؟ يملك هذه الأمور المعنوية! يملك الباطن، القلوب، يملك ميعاد الساعة؟ كل هذا لله وحده
فهو من يملك الظاهر والباطن.
(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك) إذن الملك هنا لمن؟ لله.. ليس لملك الدنيا، وكما يقول ملك الموت يا ملك الدنيا من الملك؟
هارون الرشيد حينما حضرته الوفاة قال: أروني قبري الذي أدفن فيه فلما رأى هذا القبر قال قولته المشهورة: يامن لا يزول ملكه.. ارحم من زال ملكه.
(تؤتي الملك من تشاء) المشيئة الكبرى والحكمة.
وتعز من تشاء وتذل من تشاء، ولو كان مذلولاً ظاهراً مثل من يضيق على أهل التوحيد، على أهل الالتزام، فيظن الناس أنهم في ذل وهم في عز.
وتذل من تشاء لو أعززته ظاهراً في ذل المعصية الظلم، التكبر، فلنفهم العز بمعناه الظاهري والباطني.
فالعز في طاعته والذل في معصيته، فمن كان طائعاً لله فهو عزيز حتى ولو كان مضيق عليه في العيش، ومن كان عاصياً لله فهو ذليل حتى ولو كان معه أسباب العيش، هذا هو العز الحقيقي، وهذا هو الذل الحقيقي.
(بيدك الخير إنك على كل شيء قدير)
(تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) أنوار، وأسرار، وجمال ونور عل نور
نسأل الله أن يرزقنا الملك الحقيقي وتملكنا من أنفسنا، وأن نعبده عبادة من يعلم أنه الملك، أنه الجبار، أنه المتكبر، وأنه المهيمن، أن الأمر أمره والملك ملكه، ولا إله غيره، يملك ما في السماء والأرض وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما... يا قلب ذب في حب ربك الذي يملك كل شيء، وكل شيء هنا ما ظهر وما بطن، وكل ما تتصوره ومالا تتصوره.
أي جبار أو أي إنسان، أو أي مخلوق آخره يملك ماذا؟ يملك الجسم، يملك الظاهر.. هل يملك القلب؟ هل يملك الفكر؟ هل يملك الفؤاد؟ هل يملك الحياة؟ هل يملك الموت؟ هل؟ هل؟ هل...؟
الله هو المالك لكل شيء سبحانه وتعالى، اللهم نورنا وعلمنا.. وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.